Pages


Thursday 4 May 2017

الـــــغُـــرفـــة

الـــــغُـــرفـــة

لا يعرف كيف دخل إلي هنا، يشعر أنهُ يختنق. هو غير مكبل ومهندم بشكل مريب، بالتأكيد لم يتم اختطافه. من يستطيع أن يقوم باختطافك دون أن يعبث حتى بربطة عنقك؟ لا آثار لألم ما، لكنهُ محتجز هو يعلم. إنك حين تفقد حريتك تعرف وكأنها شيء مادي ولست مجرد وهم أبدع الكتاب في جعلهُ مادة لأوراقهم. "سحقاً لهم" قالها بصوت مسموع وهو لا يعرف من هم فهو يفتقد شيء ما، شيء غير مادي لكن الحياة دونهُ مرهقة، إنها حريتهُ. "سأخرج من هنا ولن يتبقى سوي بعض أسئلة أستطيع أن أضيفها إلى تلك القائمة التي تبدأ بمن خلق الكون وتنتهي بلماذا أنا هنا؟ " قالها بتفاؤل. أستند واقفاً، لم يكن الضوء قوياً بما يكفي ولكن كان كافياً ليخبرهُ أنها ليست أسئلة غير مجاب عنها سيدفنها في عقلهُ بمجرد الخروج من باب الغرفة، لأنهُ ليس هناك باب. تلك النوعية من الأسئلة التي تعيش معها، هو يعلم أنها سترهقهُ ورحلة البحث عن إجابات ستكون صعبة. لحظة! هو يعرف هذا المكان، إنها تلك الأماكن التي تعلم أنك تعرفها جيداً، أنت جزء منها لكنك لم تكن هنا من قبل. تعلم هذا جيداً... لكن يصعب التصديق. لم تكن غرفة كبيرة لكنها تحتوي على تفاصيل متحف مهجور. نعم، لا يأتي الكثيرون إلى هنا هذا واضح. الأثاث القليل المكسور مبعثر في الغرفة إلا هذا الكرسي يبدو جديداً كأن أحدهم يهتم به بشكل ما. 


ما تلك اللوحة المهيبة التي تقف شامخة على ذاك الجدار المشروخ؟ هناك بعض الأوراق المبعثرة وبعض الكتب عتيقة الغلاف. من كتبها يا تري؟ وماذا بتلك الأوراق؟ تلك الأسئلة تدور في عقلهُ ولكن الأسلة لن تنتهي إنها حرب الأسئلة وهو منهزم حتى الأن بلا شك. " أين الطعام؟ أين الشراب؟" قالها بسرعة وتعجب مريب. هل سيعذبهُ الخاطفون حتى يموت جوعاً وعطشاً. بدأ يدور في الغرفة ليبحث عن مخرج. هو غير متوتر لا يهرع كأحد أبطال أفلام الرعب التي اعتاد مشاهدتها، هو فقط يريد الخروج من هنا فهناك عالم كامل ينتظرهُ بالخارج. لقد أصبح هادئاً بشكل ما. يسمع وقع قدميه وهو يتجه إلى شباك الغرفة الوحيد، يسمع الأمل. لكن عندما وصل إليه خاب أملهُ، فلا مقبض لهذا الشباك ولا يبدو أن زجاجهُ الشفاف قد ينكسر في لحظة ما، لا شيء خلف هذا الزجاج، بالفعل لا شيء وكأن تلك الغرفة معلقة في فضاء كوني ما. " تنهد قائلاً:" ما هذا يا ربي؟" أستمع إلي جملتهُ الأخيرة بتعجب فأي إله يناجي الآن؟ هو يعلم أن هناك إله، فمن غير الممكن أن يكون هذا الكون مسرحية هزلية في عالم المصادفة. لكنهُ لا يتوجه إليه عادةً فهل هذا هو الوقت المناسب؟ من يدري لعله الوقت.


 وما إن استدار للخلف بكل ما يحمل من خيبة أمل حتى وجد تلك اللوحة مرة أخري. تلك اللوحة تشعرك أنك في مواجه معها فهي تتحداك، لها إطار ذهبي عتيق يشعرك أنهُ أحد أبناء عصور النهضة، أما الرسم فهو حديث، حديثٌ جداً. فلا يمكن أن يكون فنانوا القرن الثامن عشر هم من حاولوا جعل اللون الأزرق يضيع هكذا بين بقية الألوان. فالأزرق يغرق، نعم يغرق في عجز. وهو يهاب الغرق، لقد جرب هذا الشعور وهو طفل على شاطئ ما، فكره هذا الشعور وكره الصيف. كره الغرق لأنهُ عجز، تريد بعض الهواء، فقط القليل ولكنهُ غير مسموح، لا مكان للتفاوض. منذ ذلك الوقت وهو يغرق، كل فتاة تلعثم أمامها، كل قرار أُجبر عليه، كل إهانة كانت إجابتها الصمت، كل عجز كان غرق. تلك اللوحة هي كل ما يكره هي العجز والفشل. لكنها تقف شامخة في إطار ذهبي يدل على أن هذا العالم يهتم بكل ما يُدمرنا، وبكل ما نكره. كم هو سادي هذا الزمان؟ إنهُ لا يفهم ولكن قد تصبح اللوحة أقل جمالاً ورهبة إن توقف عن الهرب منها ومن كل ما تدفعنا للشعور به. فبعض الأشياء مهمة لأننا نتجنبها، وجميلة لأننا نحاول الهروب منها. تجاهل هذا الكرسي الوحيد الصالح للاستعمال في الغرفة وجلس أسفل اللوحة مسنداً ضهرهُ للحائط. كأنهُ يريد أن يرتاح، فمواجه ما بداخل عقلة وذكرياتك مرهق بالتأكيد. أسند رأسهُ للوراء وأغمض عينهُ ببطيء، لكنهُ فتحهما بسرعة وتساءل: " هل سأستسلم لتلك الغرفة اللعينة؟" أزاح ما بجانبهُ ليهب واقفاً، فهناك رحلة طويلة للهرب. وقعت عيناهُ على كتاب ملقي على الأرض فتعجب: “من الساذج الذي قد يؤلف كتاباً بهذا العنوان: عندما يثور دب الكوالا؟" ليس هذا هو المهم الأن المهم أن يجد مخرج. دار في الغرفة في ثواني معدودة فهي ليست كبيرة وعاد منكسراً، جلس تحت اللوحة مرة أخري، ورغم الاضطراب تناول الكتاب ذا العنوان الساذج وبدأ في قراءة صفحة عشوائية.



" لم يثر هذا الدب قط، فقد أستسلم لجيناتهُ وأصر على أنهُ خُلق للنوم. وأنت نائم لا تشعر أنك مظلوم أو حزين أو حتى سعيد، أنت فقط لا شيء نائم. وحين تستيقظ ليلا لساعات محدودة يمكنك الهرب من الواقع ومن أفكارك، فقط الهرب. إن كل دب كوالا قرر أن يثور ما هو إلا ساذج أو مدعي بطولة. دائما ما تبقي الأحوال هكذا لن يتغير شيء، فلنعش تلك المسرحية مستمتعين بالنوم. أتهمهُ الجميع أنه رعديد، وأعتقد أن جميعهم مرضي الوهم. وفي الصباح التالي...."

لم يكمل ما حدث بعد ذلك، لأنهُ يعلم نهاية تلك القصص فالثوار دائماً يفوزن والحق دائماً ينتصر. وكأن الروايات تحاول تعويضنا عن مرارة الواقع الغير مفهوم. هو يعلم أنهُ ثائر جبان، فهو يكره الظلم ويمجد الإنسانية، يسعى إلى عالم رائع خالي من كل تلك الدماء والحقائق المزيفة والسلطات السادية، لكنهُ لا يثور. قالها بصوت مسموع لهُ صدي في تلك الغرفة العجيبة: "أنا فقط جبان، أنا أخاف الهزيمة. لا ثورة تنجح إلا الثورات الفاشية، الثورات الظالمة وكأن ما يثورون من أجلهُ هو الحق" ألقي نظرة على الكتاب المرهق وقال: "أنا لست دب كوالا." صمت للحظة ثم قال: "أو قد أكون" قالها بداخلهُ وهو يلقي الكتاب بعيداً وهو لا يعرف لماذا فُتح الكتاب على تلك الصفحة تحديداً؟ فلا شيء يحدث مصادفة في تلك الغرفة.

كان واقفاً في وسط الغرفة، يتنفس بسرعة وبدأ يتحرك في خطوات مرتبكة، ضرب الحائط بقدميه في يأس. هو يريد الخروج، هو لم يخرق أي قانون ولم يعادي أحد. لماذا هو بداخل تلك الغرفة تُساق إليه كل الآلام والذكريات؟ تلك الغرفة مصممة من أجلهُ أم ماذا؟! صوت... إنه صوت حركة فقال بشوق: "هل جاء سجاني أخيراً؟ هل سأخرج أم سأموت؟" ثم أجاب في عقلهُ بسرعة كأنهُ يتدارك نفسهُ لا لن أموت، فأنا أكره الموت، أكره تلك الحالة التي لا يقوم فيها الإنسان بوظيفتهُ الأساسية...الحياة. لكن أين ذهب الصوت لماذا لم يأتي أحدهم؟ صرخ " فليأتي أحدهم ويخبرني أنها نهايتي إن مرارة الواقع أفضل من مرارة الانتظار، فلتأتي أيها السجان الجبان." ولكــن فقط لا صوت.


قرر أن يبدأ في الانهيار التام، نعم فالانهيار قرار يجب أن يتحمل مسؤوليتهُ. انطلقت آهاتهُ بنبرة مؤلمة لمن يسمعها ولكنهُ لحسن حظهُ أو سوئه لمح هاتفهُ مُلقي على الأرض تحت هذا الكرسي الأنيق محاط بكومة من الأوراق البالية. ما الفائدة؟ فككل أفلام الرعب لن يعمل الهاتف، أو سيجيب أحدهم ليجعل انتظارهُ أكثر غموضاً ورعباً فمن المختطف الساذج الذي قد يترك هاتفاً يعمل بمحبس أحدهم. التقط الهاتف وفكر بمن سيتصل. العجيب أنهُ لم يفكر في النجدة ولكن فكر في الرقم الوحيد الذي يحفظهُ. الرقم الوحيد الذي لن يجيب، فهي تكرهُ وهو يستحق. يعلم تماماً أنهُ دمرها، لكنهُ لم يرد ذلك. فهي جميلة بالفعل لها عين أسطورية كأحدي لوحات "سلفادور دالي" الغير مفهومة، الغير منطقية، لكنك تعرف فقط أنها جميلة. يعلم أنها أحبتهُ لكنهُ كان أنانياً بما يكفي ليرفض. المسؤولية ترعبهُ وهي مسؤولية ضخمة. فأن تعشق شخص كامل وبهذا الجمال يدفعك للهرب، هذا ما فعلهُ، فترك كل شيء هي جزء منهُ وذهب إلى بلد آخر ليعيش قصة هي فيها مجرد ذكري جميلة. تركها لأنهُ جبان ولأنها مخيفة. قال وهو يسترجع رقمها: " أنا ثائر جبان، ولكني عاشق أكثر جبناً." تركها تضيع وحدها، وها هو يُعاقب الآن، فهل ستسامحهُ؟ هل مفتاح الخروج في يديها؟ لا أحد يعلم.
" ماذا تريد" إنهُ نفس الصوت الغاضب لكنهُ أكثر جفافاً
" أنا محتجز في غرفة لا ملامح لها، لا مخرج منها، ساعديني أرجوك... ساعديني" لم يفهم المعجزة فالهاتف يعمل وهي تُجيب، لن تتركهُ يموت هو يعرف هذا.  
"أساعدك... لماذا؟"
"لا أعرف، أنا بالفعل لا أعرف...لكن..." بدا على صوتهُ الضياع
" أنا لا أستطيع مساعدتك...فقط لا أستطيع" كانت نبرتها أرق ولكن غير مفهومة
" أرجـــوك"
أحتد صوتها " كيف أساعد وأنت سجّانك... لا فرصة أمامي الآن كما لم يكن أمامي فرصة في الماضي."


ألقي الهاتف بعيداً بعشوائية وهو يبكي، يبكي لأنهُ ضعيف، لأنها تكرهُ، لأنهُ مازال هنا. هدأ للحظة وتساءل: "ما هذا هي دائماً تعرف، هي لا تعرف الكذب ولا تختلق الأحداث. قالت إني أحتجز نفسي، أنا في حلم ما، إنهُ عقلي يرهقني، وهي دائما المرشدة للطريق" قالها بنبرة أرخميدس وهو يكتشف قانونهُ. حاول أن يستيقظ، أغمض عينيه ومرت لحظة غير مفهومة لا تعريف لها على أي من بُعدَي الزمان والمكان. ويفتح عينيهُ وهو مستلقي، لقد استيقظ، ينتظر النور الخافت، مشتاق إلي غرفتهُ المعتادة، قد يقدم أي شيء مقابل فنجان من قهوتهُ أسطورية المذاق. لكن " ما هذا؟" قالها في نبرة مكتومة " إنها نفس اللوحة الزرقاء مازالت هنا، إنها نفس الغرفة، لا يجب أن أكون هنا، لقد خرجت واستيقظت... ساعدوني."
تتسع عيناهُ، ينظر باتجاه لا شيء ويتساءل ببلاهة " كيف أخرج من داخلي، كيف تهرب من ذاتك التي لا تعرفها... فقط كيف؟" لا أحد ليجيب.




تمت بحمد الله