Pages


Friday 11 May 2012

حلقة الذكر



نظر إلي أوراقهُ و حبره بعد لم يجف فقد عاد إلي واقعنا من عالمهُ الخيالي  الغامض الذي يهرُب إليه ليصوغ ابياته الذهبية و بدأ يقرأ بشجن تلك الأبيات.
شاعرٌ ترفض كلماته السطــور
عاشقٌ تهرب من سمائه الطيور
فيهرب ليعيش في فراغٍ مهجور
فراغٌ ما عاد فيه الصبرَ صبور.....
كم عشق تلك الأبيات بعد أن قرأها فهي- رغم كثره ما كتب و ما سيكتب -  تعبر بكل و ضوح و حزن عنه فهي تلخيص لحياة شاب بلغ الثانية و العشرين و لم يفعل أي شىء يذكر غير انه خلف أكوام من الورق المليئ بكتاباته. أمسك الورقة و نظر فيها بإمعان ثم أراح ظهره علي هذا الكرسي الخشبي البسيط لهرب إلي ذكرياتهُ، و كان أول ما تذكرهُ هو أول يوم أكتشف فيه أن حقه في الحديث أو التعبير قد سُلِب بسسب الثلعثم . تذكر المدرس و الطلاب و حتي الدرس و السؤال الذي سأله بعلو صوته رغم تقطع الحروف " م م مممكن تتشرح ددي  تـ تاني يا مستر؟" لم يستطع الأطفال أو حتي الأستاذ حبس ضحكاتهم و سمع من سخريتهم ما جعله يندم علي السؤال و علي الحديت بل و يكره لسانه.وعند هذا المشهد قرر الخروج من عالم الذكريات الموجع، ولكن تأبي ذكرياته إلا أن تعيده إلي عالمها في مشهد مؤلم آخر يشعر فيه أنه نكره. فتلك الفاة- الطفلة في ذالك الوقت- صاحبه العينين البنيتين الواسعتين و شعرها البني القصير الكثيف هي حبه الأول. فقد أسرته إبتسامة شفتيها الكبيرتين و جعلته يشعر بالحب و الألفة و هو لم يتجاوز الثالثة عشر بعد. فكم جلس علي تلك " الدكة" المتهالكة في " الحوش"  ليراقب تصرفاتها و أدق تفاصيلها، كيف تتحدث، تلعب و حتي كيف تغش و تتحايل. كان الجميع يتحدث معها و يصادقها إلا هو فكم كان يخشي أن يواجهها بحروفه المتقطعة المتلعثمة. لم يكن المؤلم في هذه الذكري أنه فقد الفتاة – فهو يدرك الأن انها مشاعر طفولة ليس إلا- بل ما آلمه حقا هو الشعور بالعجز رغم أنه سليم، صحيح بل و بارع في الوصف و التعبير لكن تلك الحروف التي ترفض التشابك تخونه و تشعره بالعجز. لكن هذا المشهد لم يكن بهذا السواد فقد ادرك في تلك اللحظه أن و سيلته للتعبير هي الكتابة عندما حاول كتابة بعض الأبيات و الجمل لتلك الفتاة ساحرة العينين بدا واضحاً ان هذا هو المخرج و الملاذ لأنه شعر أن كتابتهُ منمقة، معبرة و صادقة. فكان هذا الأكتشاف هو الخيط الأبيض في تلك الصورة قاتمة السواد.و هنا فقط سمح له عالم ذكرياته بالخروج ليعود إلي واقع لا يختلف عن الذكري كثيرا. فينهض من علي الكرسي الخشبي و كان أول ما يصادفة عند النظر إلي الحائط الذي يعاني من بعض الشقوق بمحاذاة السقف هي شهادة تخرجة من كلية الأعلام فيتنهد معطياً الحائط ظهره وله في ذلك كل الحق فلكي يحصل علي تلك الشهادة واجه الكثير من الظروف و الأشخاص. فبعد النتيجة المتوقعة في الثانويه العامة فضل أبويه أي كلية عملية لتفادي الأحتكاك المبالغ فيه مع الأشخاص و الأكتفاء بالتطبيق و الحسابات لكنه قرر دخول مجال يعتمد و فقط علي التعبير ليسترجع حقه المسلوب و لك أن تتخيل " الدغ" في الأعلام فما بالك بمن يتلعثم.ورغم كل ذلك جعلته كتاباته المميزة قادراً علي فرض نفسه  و التخرج بجداره. و الآن قرر ترك المكتب بذكرياته و الشهادة بحروبها و الخروج ليستمتع بأضواء  مصر و صخبها ليلاً. و لكن سحقا لهذا اليوم فحتي الشارع و الميدان بكل معالمه يذكره أنه متجاهل و مرفوض، فذاك المقهي الذي كان يجلس عليه و يشكل نداء صبي القهوة و طلب المشروب مشكلة في كل مرة و إن كان رواد هذه القهوة إعتادوا علي هذا النداء " ييّــا ع ع عصفورة" و هو إسم صبي القهوة ، إلا إنه كان يؤثر في نفسه كل مرة علي مدار السنوات. أكمل سيرهُ ليرى في الأفق مقر توزيع الجريدة يتلئلئ، تلك الجريدة التي تقدم إليها فقابله رئيس تحريرها بفظاظة قائلاً " و أنت لما تيجي تعمل حوار هتذل الضيف عقبال ما تسأله كده!! روح أعملك كتاب ولا حاجة"، ما يتذكره ليس فقط فظاظه الرجل ولكن رد فعله الغريب فقد أبتسم في وجه الرجل ليؤكد له أنه الخاسر. ايقظه النسيم المسائي و هو يداعب و جنتيه في تلك الشوارع وظل يسير و يسير مثقلاً بالهموم و الذكريات و الصمت، تتسارع الدنيا من حوله وهو يبطئ في مشيته.ليجد نفسه أمام ضوء أخضر يأخذ عينيه و همهمات غير مفهومة عالية الصوت ليتضح المشهد أمامه إنها حلقة ذكر للمتصوفة. فيقرر أن يدخل معهم فيتأمل وجوههَمم التي تحكي تجاعيدها الكثير و يشاركهم الدوران و الهمهمة آملاً في أن تتحرر روحه المثّقلة المُتجَاهلة من الجميع. بدأ يدور و يدور و كلما زادت سرعتهُ في الدوران يشعر أن العالم يدور أسرع منه، و أن روحه أثقل و كأنها شيء ملموس يتحامل علي ضلوعهُ. إن الزمن و الذكريات يتحديانه. هنا بدأ نفسه يضيق أكثر..... فأكثر. شعر أنه وحيداً في المكان، تذمرت قدماه و لم تعدد تحتمله فقررت أن تخونه و رفضت أعصابه الإستجابه لأوامره، كانت الجاذبية أقوي من إرادته فسقط علي الأرض. بدأ الجميع من حوله ينتبهون إلي ما يحدث ولكن كانوا متأخرين.غقد أغلق عيناه هو يلعن عالماً يتجاهل أكثر ما يسمع، عالمٌ فرض عليه الصمت لأنه عالم سطحي يخشي الوصول إلي أعماق الأشخاص خوفاً من الحقائق فعالم يحب الصور و يحترم الوهم جعله يصمت لسبب تافه رغم أنه الأقدر علي التعبير. هو واحد من ملايين يعانون،فمن يدري أكانت تلك السقطة هي لحظة هروب مؤقتة أم كانت سقطتهُ الأخيرة؟
خالد أحمد عبد اللطيف
10-4-2012
نشرت في AUC Times